الراصد

على امتداد قرى أرياف السويداء النائية، تتجسّد مأساة تعليمية، إذ يواصل التلاميذ والطلاب والمعلمون السير نحو العلم، رغم كل ما تعانيه مدارسهم من إهمال أو نقص أو ضعف في البنية التحتية أو تىد في الوضع المعاشي والخدمي للمواطنين.
تشير الإحصائيات الأخيرة لعام 2025 والتي حصل عليها #الراصد؛ إلى أن أرياف السويداء تضم نحو 43763 تلميذاً وتلميذة في التعليم الأساسي، و3800 طالب وطالبة في مرحلة التعليم الثانوي. و 288 مدرسة للتعليم الأساسي بحلقتيه الأولى والثانية، مع كادر معلّمين وإداريين ضمن الملاك يضم نحو 3706 معلم ومعلمة، و 1231 معلم ومعلمة خارج الملاك الرسمي. كما تشير الإحصائيات لوجود 32 مدرسة ثانوية في الأرياف، تضم 663 معلماً ومعلمة ضمن الملاك و153 من خارج الملاك. هذه الأرقام تعكس بنية تعليم شبه متماسكة على الورق، لكنها في الواقع تشهد تدهوراً كبيراً، نتيجة تدهور الوضع المعيشي للطلاب والمعلمين على حد سواء، والوضع البنيوي التحتي للمؤسسات التعليمية، لاسيما بعد مجازر تموز التي نفذتها القوات الحكومية في السويداء.
وبحسب مقاطعة الاحصائيات مع الواقع في المحافظة وبوجود قرى خلت من أهلها بفعل النزوح القسري بعد المجازر؛ فإن مايزيد عن 70 مدرسة أساسية و5 مدارس ثانوية خرجت عن الخدمة بشكل كامل أو شبه كامل بعد الهجمات، ما ترك حوالي 8570 تلميذاً في التعليم الأساسي بحلقتيه و715 طالباً في المرحلة الثانوية. و 1104 معلم وموظف إداري، في حالة الشتات.
روعة طالبة في الصف الأول الثانوي، وهي إحدى بنات القرى المنكوبة في الريف الشمالي قالت لـ #الراصد؛ إنها وأخويها في مرحلة التعليم الأساسي باتوا يشكلون عبئاً إضافياً على والدهم بعد النزوح من قريتهم إلى بيت أقربائهم في إحدى القرى البعبدة عن المدينة. موضحةً؛ أن الهم الأكبر بات اليوم أن يستطيع والدهم تأمين لقمة عيشهم من خلال عمله في كراعي أغنام مياوم لدى سكان القرية المستضيفة. إضافة لتأمين أجرة حافلتها اليومية إلى المدينة لتكمل تعليمها، حيث تحتاج يوميا إلى 20 ألف ليرة على الأقل للوصول إلى مدرستها أي نحو 440 ألف ليرة في الشهر.

ومن جانب آخر تظهر معاناة تلاميذ ومعلمي قريتا شعف وشنيرة شاهدتان على معاناة التلاميذ والطلاب في أرياف السويداء النائية، ففي شعف، التي تبعد نحو 35 كلم عن مركز المدينة، يعمل مدير مدرسة “نور الدين الخطيب للتعليم الأساسي الحلقة الثانية” المدرس باسل فرزان على إبقاء المدرسة حية رغم شح الإمكانات.
فبحسب فرزان؛ هناك مدرستان في القرية (ابتدائية وإعدادية) تخدمان 115 تلميذاً: 75 في الابتدائية مع 13 معلمة و4 إداريين، و35 في الإعدادية مع 6 مدرسات و3 إداريين. لكن لا مختبرات، لا تدفئة كافية، لا أدوات تدريب ولا مكتبة تليق بطموح طفل يقرأ. حيث تحتاج المدرستان نحو 2300 لتر مازوت سنوياً لتدفئة الصفوف، لكنها لا تُؤمَّن إلا عبر تبرعات محلية أو دعم متفرّق من جمعيات، لا يغطي إلا جزءاً بسيطاً من الحاجة.
ولايختلف الوضع في قرية شنيرة عنه في شعف، فالحلقتان الأولى والثانية تضمان نحو 72 تلميذاً وتلميذة و 29 مدرساً ومدرسة بين كادر تعليمي وإداري، أغلبهم من خارج الملاك الرسمي. وعلاوة على ذلك الأدوات التعليمية قديمة، في ظل غياب شبه تام للدعم الرسمي.
يقول مدير الحلقة الأولى في قرية شنيرة المدرس إحسان الحجار للراصد: “نمارس التعليم بدافع ذاتي، لأننا نعلم أن كثيراً من أطفالنا إن توقفنا عن التدريس، سيُحرمون مستقبلهم”. كما أشار إلى أن المدارس في القرية تعتمد على نسخ الكتب المستعملة حيث لم تحصل على كتب جديدة هذا العام، ما يشكل عائقاً آخر في المسيرة التعليمية.
والجدير بالذكر أن هاتان القريتان ليستا الاستثناء في أرياف السويداء، بل نموذجان حيّان لمدارس ما زالت تقاوم وسط غياب أي خطط جدية من المؤسسات الرسمية.

ورغم اختلاف ظروف القرى قليلاً، إلا أن عدة أمور تجمعها كنقص النقل المدرسي المنتظم، البعد الجغرافي لأبناء القرى عن مدارسهم الثانوية في المدن الرئيسة، البنية التحتية المتداعية لغالبية المدارس، القاعات الصفية المزدحمة، غياب الكهرباء أو التدفئة أو الماء الصالح، ونقص الكوادر المؤهلة خصوصاً في مواد مثل العلوم والرياضيات واللغات، عدد كبير من المدرسين يعملون خارج الملاك الرسمي، ما يعني تأخير الرواتب، غياب الضمان الاجتماعي، وربما عزوف عن البقاء إن لم تتوفّر شروط عادلة. أما التلاميذ فغالباً ما يدخلون المدرسة مرهقين من صعوبة المواصلات.
يقول الناشط المدني حسن حرب في حديث للراصد؛ ما يحدث في أرياف السويداء ليس أزمة عابرة، بل مأساة بنيوية تتجسد في مدارس بلا دعم، تلاميذ وطلاب منهكون مادياً، ومعلمون بلا ضمان. لا يكفي أن نحترم أولئك الذين يضربون المثل بالإصرار والتضحية. المطلوب خطة شاملة: إعادة ترميم المدارس المتضرّرة، تأمين كوادر ثابتة ومؤهلة، تنظيم نقل مدرسي دائم، تزويد المكتبات والمختبرات، وتأمين تدفئة ومرافق أساسية.
ويؤكد الناشط؛ إن التعليم الريفي ليس رفاهية يُسمح به أو يُمنح صدقة. إنه حقٌ ثابت، وبدونه يُمحى المستقبل قبل أن يبدأ. أبناء الريف لا يحتاجون إلى مديح لصمودهم؛ ما يحتاجونه هو شريك رسمي يضمن لهم أن مقاعدهم في الصف لا تُفتَح بمجهودات فردية، بل تتاح كجزء من خطط رسمية،لأن التعليم ليس ترفاً بل فرصة لمستقبل أفضل. ولا يجب النظر له كحلم، بل كحق.



