“تعارة” القرية التي أُحرقت كتبها قبل أن تُهدم بيوتها.

الراصد – غيداء الصفدي
منذ عقود؛ كانت تعارة، الواقعة في ريف السويداء الغربي، أشبه بحديقة ثقافية وسط الريف السوري. بين بيوتها الحجرية وحدائقها المثمرة، وُلدت مكتبات عائلية تضاهي صالات الجامعات في تنوع عناوينها، حيث خرج منها أدباء وصحفيون وناشرون وشعراء؛ تركوا بصمتهم في الثقافة العربية، منهم الروائي ممدوح عزام، والكاتب الصحفي فادي عزام، والكاتب فواز عزام، والكاتبة جهينة العوام، والشاعرة سميرة عزام، والناشر سميح العوام، والناشر داود عزام صاحب دار البلد.
كانت القرية تحتفظ بمخطوطات نادرة، وأرشيف صور، ومئات المؤلفات في الأدب والتاريخ والفلسفة، بل وحتى آلاف الأفلام السينمائية واللوحات الفنية.
لكن فجر 14 تموز 2025، جاء زمن آخر، زمن الهمجية.
عند الرابعة والنصف فجراً، كان حراس الحاجز الجنوبي يتبادلون أحاديث ليلة صيفية هادئة، قبل أن يتلقوا رسائل تطمين حول تحرك رتل عسكري كبير باتجاههم: “قوة صديقة في الطريق، سهّلوا دخولها”.
لكن الطمأنينة لم تدم سوى لحظات؛ إذ اخترقت الأجواء طائرة مسيّرة وأسقطت قذيفتها الأولى على الحاجز، لتستهدف مباشرة قائد أحد البيارق أبو كنان إياد الحسين، الذي استش.هد على الفور. أعقب ذلك تقدم رتل عسكري من جهة بصر الحرير، فتح نيرانه بلا إنذار على من تبقى من الحراس، فسقط سبعة من شباب القرية، لتشتعل شرارة معركة غير متكافئة منذ لحظتها الأولى.
من الغرب، أمطرت المضادات الأحياء السكنية بالقذائف، فيما المسيّرات تقصف أسطح البيوت، فاشتعلت النيران بسرعة شيطانية. لم يكن الهدف إسكات الرصاص فقط، بل إحراق كل ما يرمز للحياة.
هرع الأهالي، عبر الحقول باتجاه قرية قراصة، يحملون أطفالاً وأوراقاً وصوراً صغيرة نجت من اللهب. كان الشباب يقاتلون في الخلف، يمنحون عائلاتهم دقائق إضافية للهروب، بينما السماء تشتعل بضوء الانفجارات.
يقول أحد الناجين في شهادته لـ #الراصد:
“أن ترى بيتك يحترق خلفك ولا تستطيع العودة حتى لإنقاذ شيء ما، أي شيء، ذلك موت مضاعف.”
ومع انبلاج الصباح، انسحب آخر المدافعين، تاركين القرية لمصيرها.
في 17 تموز، عاد بعض أبنائها خلسة لدفن ستة من كبار السن، ليجدوا أن 70% من المنازل محترقة، وأن جثامين من سقطوا في المعركة اختفت. وفي 5 آب، اكتمل المشهد: إحراق ما تبقى بعد النهب، تدمير الكنيسة الوحيدة، ومحو بيوت المسيحيين والدروز بلا تمييز.
في بيت الروائي ممدوح عزام، لم يكتف الحريق بابتلاع الجدران، بل ابتلع سبعة آلاف كتاب، ألفي فيلم سينمائي، عشرين لوحة لابنه الشاب الفنان تمام عزام، وعشر لوحات أخرى لأصدقائه، ومئات المجلات العربية والسورية. لم يكن ذلك دماراً مادياً فحسب، بل عملية إعدام للذاكرة.
أسفر الهجوم عن ارتقاء ستة عشر شخصاً، بينهم ثلاثة عشرة من أبناء القرية وثلاثة ممن يقطنون مدينة السويداء، وإصابة أربعة عشر آخرين معظمهم من الشباب. كما جرى خطف مسن يبلغ من العمر تسعين عاماً، ولقيت السيدة ليندا علي عزام، البالغة ثمانين عاماً، حتفها داخل منزلها. ودُمّر 274 منزلاً و30 محلاً تجارياً تدميراً كاملاً، فيما اضطر جميع السكان إلى النزوح عن قريتهم.
تعارة اليوم ليست مجرد أطلال، بل ندبة عميقة في قلب الثقافة السورية. بين جدرانها المهدمة وأبوابها المخلعة، يمر صمت الريح حيث كانت الكتب تُقرأ وضحكات الأطفال تملأ الحارات.
قد تحرق الهمجية الورق والخشب، لكنها تعجز عن محو أسماء أهلها وما حملوه من فكر وروح، فالجريمة هنا لم تستهدف حجراً فقط، بل استهدفت العقل والذاكرة معاً.