الأطفال المشردون في شوارع السويداء “حلول مؤقتة لأزمة مستعصية”!
“ليلة كاملة قضيتها برفقة أطفال مشردين وسط مدينة السويداء، أكبرهم سناً كان في العاشرة من العمر”- يقول علي حرب للراصد.
ويشير حرب، إلى أن تفاصيل الحكاية بدأت في اليوم السابع والعشرين من رمضان الماضي، الموافق ل 18 نيسان 2023، بعد سماع صوت مدفع الإفطار، عندما لفت انتباهه طفل في التاسعة من عمره، يفترش إحدى الأرصفة في شارع أمية، و(يبسمل) ليبدأ إفطاره بقطعة خبز ملوثة كان يضع عليها حبة مهروسة شبه متعفنة من الطماطم.
ويقول حرب: ” إن هذا المشهد حرك بي مشاعر متناقضة بين الإشفاق على هذا الطفل الذي لم أكن أعرفه، والكراهية للوضع الإقتصادي المتهالك والذين تسببوا به، ما دفعني لاختطاف قطعة الخبز من يد الطفل ورميها في إحدى حاويات المحال، ثم اصطحبته إلى أحد المطاعم القريبة لأشتري له (سندويشة) تسد رمقه، والتي لم يرضَ صاحب المطعم أن يأخذ ثمنها مني”.
ويتابع حرب: “لم يتوقف بي الأمر هنا، بعد أن علمت قصة الطفل الذي كان ذلك اليوم هو يومه الرابع في الشارع، بعد أن طرده والده من المنزل -حسب قوله، حاولت برفقة أحد الأصدقاء تأمينه في جامع السويداء القريب إلا أن إمام الجامع رفض ذلك رغم علمه بأن الطفل من الوافدين من درعا، وحاولت التواصل مع أكثر من شخص من المسؤولين عن الأوقاف لكن أحدا لم يستجب، وأخيراً قررت أن أوصله إلى دار الرعاية الاجتماعية في السويداء والتي رفض حارسها حينها أن يدخلنا قائلاً: (روحوا سلموه لشي مخفر)، وبذلك عدنا أدراجنا إلى وسط ساحة المدينة، لألتقي هنالك بأكثر من 20 طفل سهرت معهم حتى الصباح، أتعرف إلى حكاياتهم، الأطفال الذين أصبحوا جزءاً من كابوس حقيقي يؤرق نفسي التي تتوق أن تصنع شيئاً ينهي هذه المأساة التي يتعامى المجتمع والدولة والجهات الأممية العاملة على الأرض السورية عن رؤيتها، ولا يعملون لمكافحتها سوى ندوات ودراسات لا تسمن ولا تغني من جوع”.
يتسبب غياب الحلول الجادة للمنظمات الأممية والحكومية، في ظل الفقر والأزمة المعيشية بتزايد أعداد الأطفال المشردين في الشوارع، فعشرات الأطفال تراهم يستولون و ينبشون حاويات القمامة في المدينة.
يقول ماهر أحد العاملين في المجال الإغاثي (43 عاماً، فضل عدم ذكر اسمه كاملاً لأسباب أمنية) في حديث للراصد “بشكل يومي نرى هذا المشهد، أطفال في شوارع المدينة وأسواقها، ويفترشون أرصفتها، يمارسون التسول، وأحيانا يسبرون محتويات حاويات القمامة أمام المطاعم ومحال الحلويات والمعجنات بحثاً عن فتات طعام يقتاتون به، وقد نرى أطفالاً آخرين فقط في النهار يتعلقون بالمارة لتحصيل بعض النقود، وهؤلاء من يشك بأمر عمالتهم بالتسول المدفوع من قبل شبكات خاصة بذلك للترزق غير المشروع”
ويضيف إن هذه المشاهد ظاهرة مزعجة تؤرق القلب قبل العين، وتطرح سؤالاً مهماً هو: “أين المنظمات الأممية والحكومية والمجتمعية من ذلك؟”.
رمزي.ح (51 عاماً) أحد سكان المدينة ويشرف منزله على إحدى الحدائق العامة، قال: ” إن الحدائق تعد من أبرز ملاجئ هؤلاء الأطفال ومعظمهم في الثانية عشر من أعمارهم فما دون. مضيفاً تبدو عليهم معالم التعب والحزن والجوع، حاولنا إبلاغ العديد من الجهات عنهم إلا أحداً من هذه الجهات لم يستجب، في حين يبدو أن البعض أراد الاستجابة لكن منعته الإمكانيات أو الظروف أو تجربة سابقة”.
تفتقد الحلول التي يتم طرحها من قبل الجهات الأممية و الحكومية المعنية بالأمر إلى الاستدامة معضمها يبدو حلولاً مؤقتة، وبعضها يقتصر على كونه استعراضات وندوات، أو كما يقال “تصريحات لسرقة الأضواء الإعلامية”.
مديرية الشؤون الاجتماعية في السويداء، وبالتعاون مع منظمات محلية، أقامت منذ ثلاث سنوات ورشات عمل للبحث في المشكلة ومعالجتها، لكنها لم تقدم على خطوات عملية واكتفت بالندوات والمحاضرات.
تقول إحدى الموظفات على ملاك وزارة الشؤون الاجتماعية في دمشق والعاملة في إحدى دوائرها: ” تتسابق دوائر الشؤون الاجتماعية على الظهور الإعلامي من خلال مبادرات حتى وصفها بالخجولة يعتبر أمر مشين، لأن ما تحدثه هذه المبادرات أو مايتوقع أن تحدثه خجول للغاية، والهدف من بعض المبادرات التي هناك علماً مسبق بعدم جدواها هو الظهور بحلة بهية أمام الرأي العام”.
وكشفت المتحدثة عن، أن الإحصاءات عن أعداد الأطفال المشردين في سوريا عموماً كانت في عام 2018 بحوالي 25 ألف طفلاً بشكل تقريبي لأنه ليس هنالك محاولات جدية لإحصائهم وغالباً مايتم الإحصاء بطريقة شكلية، معتبرة أن الأعداد تفوق ذلك بأضعاف، مشيرة إلى أن التشرد لايشمل فقط الأطفال المتسولين في الشوارع والحدائق بل يتعداه للأطفال الذين حصلت حالات الطلاق بين والديهم وأصبحوا دون مستقر دائم.
“علي حرب” الذي أصبح أحد المهتمين بتفاصيل هذه الظاهرة قال للراصد إنه وبعد ملاحقة وملاحظة لأكثر من سنة للأمر، فإنه أحصى بين مدينتي شهبا والسويداء فقط مايتعدى مئة طفل وطفلة مشردين، معظمهم يمتهن التسول، فيما يتغطى آخرون تحت جناح بيع العلكة والبسكويت والمناديل الورقية.
ويشير حرب، إلى أن معظم هؤلاء الأطفال المشردين في محافظة السويداء من أبناء الوافدين إلى المحافظة، فيما لا تشكل نسبة الأطفال ذوي الأصول المحلية أكثر من 20 بالمئة منهم.
و يعتبر أن ذلك مؤشراً خطيراً للغاية، إن دل على شيء فإنه يدل على التفكك الأسري بالدرجة الأولى، والذي قد يكون ناجماً عن الفقر الذي باتت تعاني منه غالبية الأسر، وأحياناً عن إحجام رب الأسرة عن تأدية واجبه اتجاه عائلته لأسباب أخطرها التعاطي وإدمان الخمور، وبالتالي يسيرون بأبنائهم نحو التشرد ثم الإنجرار إلى الشذوذ والتعاطي وربما الاتجار بالمخدرات.
المختصة الاجتماعية والنفسية دارين الحلبي قالت للراصد: “أن تصبح ظاهرة الأطفال المشردين مظهراً اعتياديأً مألوفاً تغيب عنه الحلول، فهذا يعني أن الدولة والمجتمع تمهد لجيل من اللصوص والحشاشين والشاذين مستقبلاً، وبالتالي تعزيز البيئة المعادية لهؤلاء الأطفال”.
وأضافت “يشكل الإهمال والتعامي عن هذه الظاهرة أيضاً نوعاً من الإدانة لهؤلاء الأطفال يحملهم عبء مالم يكن لهم فيه يد، كما يعرضهم للعنف، والتحرش”.
وتتابع “إن من المفارقة في الأمر أن غالبية المنظمات والجهات المحلية والعالمية المعنية بهذا الشأن، تعمل جاهدة على إقامة محاضرات لتشريح الظاهرة وتفنيد المصطلحات الخاصة بها، لكنها تتغافل عن آداء دورها العملي لكبح الظاهرة وحسرها”.
فيما قال أحد أفراد الطواقم العاملة في إحدى الفرق الإغاثية المحلية والذي فضل عدم ذكر اسمه أو اسم المنظمة للراصد: ” في الوقت الذي يحاضر ويناضر فيه المنظرون، تزداد أعداد الأطفال المشردين في الشوارع، بزيادة الفقر والفاقة، وتزداد أعداد نباشو القمامة من الأطفال الباحثين عن لقمة تقيهم شر الجوع ليقعوا في شر أشد (هو شر المرض).
ويتابع “ينتشر بين هؤلاء الأطفال أمراض كالجرب والقمل والتيفوئيد، نتيجة تناول أطعمة وخضراوات من القمامة أو بقايا طعام المارة والمطاعم، وقد تصل لسرطان الدم بسبب فقر هذه الأطعمة بطبيعة الحال للعناصر الغذائية الكافية لأجسادهم”
ويشير إلى أن الأطفال المشردين بعد تبنيهم من قبل الفريق يحتاجون إلى عناية خاصة، من حيث الغذاء والصحة النفسية والتعليم.
وعن أسباب الظاهرة، يرجع ذلك بشكل غالب إلى تدني المستوى الاقتصادي والتعليمي لأسرهم أولاً، وللهروب من المشاكل الأسرية بين الآباء من ناحية أخرى، وللإهمال الأسري لهم أحيانا، وإلى التعنيف الأسري بشكل أبرز.
ويرى أن فريقاً واحداً أو منظمة واحدة لا تكفي للحد من هذه الظاهرة أو القضاء عليها، بل يستلزم تعاضداً بين جهات عديدة أهلية ومدنية وحكومية، ليس من قبيل التخطيط والدراسة كما يحدث عادة بل من قبيل التخطيط والتنفيذ العملي.
وأخيراً سأضع بين أيديكم ماقاله لي “وائل” آخر طفل مشرد التقيته قبل يومين يبيع العلكة والبسكويت في شارع أمية بعد أن سألته: (ليش إنت بالشارع؟!). قال: ( كلن بياخذوني عمحلات حلوة ليتصوروا معي وبس يخلص التصوير ماعاد بيعرفوني). فبماذا توحي لكم إجابة هذا الطفل ذو السنوات الإحدى عشر؟ وكيف فعلاً يمكن أن نقضي على هذه الظاهرة قبل القضاء على جيل كامل من الأطفال؟
ويبقى سؤالنا للجميع إذا صحت مقولة “إن الأطفال هم المستقبل”، فهل نحن نسير بالاتجاه الصحيح؟!