
الراصد – علي الحسين
أزيز الرصاص يقطع الهواء، شظايا القذائف ترتطم بجدران المستودع كحبات البَرَد. داخل مطاحن أم الزيتون، أربعة رجال فقط كانوا يحاولون حماية قوت المحافظة وإنقاذ مايستطيعون إليه سبيلا، بينما الموت يحوم حولهم من كل الجهات. الباب الحديدي للمستودع يُصفع بالشظايا، الدخان يتسلل من الفتحات، والقلوب تدق أسرع من مدافع الـ23.
هنا لم يعد الطحين مجرد دقيق أبيض. صار رمزا للحياة والصمود.
المطاحن التي تحولت إلى خط جبهة!!
في الأيام الأولى للهجمات التي طالت قرى السويداء الشمالية والغربية من قبل قوات وزارة الدفاع بمؤازرة من العشائر العربية، كان الجميع يتحدث عن خطوط الدفاع والقرى المهددة. لكن داخل المطحنة، كانت هناك جبهة أخرى لا تقل خطورة؛ جبهة القمح.
يقول المهندس نسيب ناصيف مدير المطاحن لـ #الراصد:
“في الفترة بين 14 حتى 29 تموز، السويداء لم تأكل رغيفاً واحداً إلا من طحين المطحنة. الشباب عملوا بلا رواتب، بلا مقابل، فقط لأنهم اعتبروا أن الطحين سلاح الحياة لأهالي السويداء. لو لم يصمدوا، لكانت السويداء بكل مناطقها بلا خبز، والجوع أخطر من الرصاص”.
منذ أن بدأت قوات الحكومة المؤقتة والعشائر المساندة لها الهجوم على قرى وبلدات السويداء في 13 من تموز، كثفت إدارة وعمال مطاحن أم الزيتون جهدها لإرسال أكبر كميات من الطحين إلى أفران المحافظة كافة، وكان العمل يزداد وتيرة كلما سقطت قرية بيد المهاجمين.
كيف بدأت القصة؟
في الثامن عشر من تموز، كانت المطحنة تعمل كعادتها. وصلت شاحنات من صلخد لتحميل الطحين.
يروي المهندس نسيب ناصيف: “حمّلنا 40 طناً في شاحنة، و35 طناً في شاحنة قَطْر أخرى تعودان لمدينة صلخد ونواحيها. بقيت حتى المساء أنا وعاملان فقط، لأن معظم العمال من القرى لم يستطيعوا العودة. لم نكن ،نعلم أن اليوم التالي سيغيّر كل شيء”.
في التاسع عشر، دخلت المجموعات المتطرفة إلى قرية أم الزيتون. طريق المطحنة أُغلق من الشرق والشمال، ولم يبق سوى منفذ ضيق باتجاه مجادل. ومع ذلك، لم يتوقف العمل وتمكن العمال من تعبئة 9 أطنان لفرن طربا بجهود موظفَين اثنين فقط، وخرجت الشاحنة عبر الطريق الزراعي الوعر. لم يكن هنالك وقود ليصل العمال، فبقوا محاصرين بين الموت والواجب.
في العشرين من تموز، اشتد القتال حول المطحنة، وفي اليوم التالي، قرر ناصيف أن يغامر بنفسه؛ سلك الطريق بسيارته رغم الخطر. وصل إلى المطاحن والتقى بشباب من مجادل، رمزي أبو لطيف، مزهر شلغين، هشام شلغين، وعقل شلغين. والذين اتخذوا قراراً بالعمل بأي وسيلة لإنقاذ ماتبقى من الطحين والقمح. اتصلوا بعدة جهات، لكن لم يستجب أحد سوى رئيس بلدية مجادل، الذي أرسل سيارتين تقلان شبان من القرية. جاؤوا بأيدٍ عارية وحمّلوا 10 أطنان بأنفسهم، بينما أصوات المدافع تقترب أكثر فأكثر.
في الحادي والعشرين من تموز، حين انهالت قذائف مدفع 23 فوق المستودع، كان أربعة رجال فقط يتنفسون الموت مع كل شظية تخترق الباب المعدني. لم يفكروا بالهرب، بل فكّروا كيف يُخرجون الطحين آمناً للناس. كانوا يدركون أن بقاءهم في الداخل أخطر من الوقوف على خط النار، ومع ذلك لم يتراجعوا.
يقول ناصيف: ” ذلك اليوم كنا داخل المستودع الشظايا تنهمر على سطح المطاحن مثل المطر. كنا أربعة فقط: رمزي أبو لطيف، مزهر شلغين، وعقل شلغين وأنا”.
لم يكن التحدي مجرد تحميل الطحين والقمح، بل مواجهة القصف المباشر. كان القصف يأتي من الشرق والشمال، كنا نسمع فرقعة قذائف الـ23 على بعد 100 متر فقط. شباب مجادل تقدموا لكي يحمونا من جهة السويمرة وأم الزيتون. لم يكن معهم سوى شجاعتهم.
ومع مغيب الشمس، وصلت سيارة أنس القنطار مع شباب من المقاومة الشعبية للمرافقة. جاؤوا أيضا بمساعدة أربعة من أبناء منطقة اللوا الذين كانوا في أحد مراكز الاستضافة في شهبا.
يصف ناصيف تلك اللحظات لـ #الراصد: “بينما بدأ القصف يشتد وينهال تجاه المستودع مباشرة. حاولنا إغلاق الباب بعدما بدأت الشظايا تدخل منه. بعض الشباب خرجوا بدراجاتهم النارية، وأنا ورمزي ركضنا لنطفئ الآلات قبل أن تطالها القذائف. ثم خرجنا من الباب الغربي للمستودع، والرصاص يتساقط حولنا. لم نشعر بالأمان إلا عند حاجز مجادل، وكان معنا زميل من دمشق من أصول فلسطينية تعطلت سيارته قبل الحصار. لم نستطع تركه وحده.
كان شعورنا أن أي ضرر قد يلحق به سيكون طعنة في قيمنا وأخلاقنا. لذلك تم إخراجه مع شباب مجادل، الذين استقبلوه كضيف مكرم حتى عاد لاحقًا إلى دمشق مع الهلال الأحمر. كان هذا القرار مفصلياً؛ لم يكن مجرد إنقاذ شخص، بل إنقاذ قيم مجتمع بأكمله تربينا عليها في الجبل.
هذه الملحمة لم تكن بلا خسائر. المدافعون من شباب مجادل قدّموا شهداء في معارك الدفاع عن المطحنة. موظفون في المطحنة، بينهم وسيم وبشار وعمر ورفعت وأسامة عامر، استشهدوا جميعهم قرب قرية السويمرة.
بطولات بلا ضجيج!!
وفي اليوم التالي في الثاني والعشرين من تموز اقتحمت المجموعات الإرهابية المسلحة المطاحن، نهبت ما استطاعت نهبه من الطحين المتبقي، ثم استهدفت صوامع القمح بالقذائف المتفجرة والحارقة بعد انسحابها على إثر تصدي المقاومة الشعبية لها وإجبارها على الانسحاب. فاشتعل القمح داخل الصوامع.
في الرابع والعشرين من تموز بدأت مواجهة من نوع آخر، وجد ناصيف نفسه وحيداً في المستودع وسط الفوضى. لا عمال، لا وسيلة اتصال، والضرب ينهال من حوله.
“شعرت للحظة أن الأمل انتهى. كيف أوزع الطحين بعدالة وسط الفوضى؟ كيف أحمي العهدة بلا رجال؟” يقول ناصيف لـ #الراصد.
ويستطرد؛ فجأة دخل شباب مجادل، نظموا الأمور، واستدعينا فريق الإطفاء الذين أخمدوا النيران الظاهرة بالمطافئ. ولكن واجه العمال معركة لم يكن أحد يتخيلها. القمح المحترق لا يُطفأ بالماء، بل لا بد من فصله عن السليم قبل ذلك، وهي مهمة أقسى من مواجهة القذائف.
يروي المهندس نسيب ناصيف: “الدخان كان خانقاً لدرجة أنه يخنق صدرك في دقائق. ومع ذلك، دخل العمال بلا أجهزة تنفس، فقط بقطعة قماش مبللة على وجوههم. كانوا يغامرون بالموت كل ثانية”.
وأردف: “بعضهم لم يخرج سالماً بعد جهد أيام في تفريغ الصوامع وفصل القمح المحترق عن السليم، فالشاب البطل حسام شلغين رئيس قسم الصويل، أصيب بالتهاب رئوي خطير وهو ما زال طريح الفراش في المستشفى الوطني. وأمجد جديع شلغين انهارت حالته الصحية نتيجة تعرضه للدخان. وتسعة عمال آخرين ظهرت عليهم أعراض التهابات رئوية حادة بسبب الاستنشاق المستمر للدخان داخل الصوامع. مع ذلك، لم يتوقفوا.
“لم يقل أحدهم: كفى. كانوا يدخلون ويخرجون مرارا، يفصلون القمح السليم من بين الدخان، يطفئون النار بوسائل بدائية، معتبرين أن كل حبة قمح يستطيعون إنقاذها تعني حياة لأهالي المحافظة”.
لم يظهر هؤلاء العمال على شاشات التلفاز، لم يتحدث أحد عنهم كأبطال. ومع ذلك، لم يكونو يقلو شأناً عن الجنود في تلك اللحظة، لأنهم لم يحموا فقط أرضا أو مبنى، بل حموا لقمة الناس.
يتوقف المهندس ناصيف عن الحديث لبرهة، ثم يقول بصوت مليء بالعاطفة بعينين يملأهما الدمع:
“أنا فخور بكل لحظة قضيتها مع هؤلاء العمال وشباب مجادل، الذين كانوا في الخط الأول. من يفقد الأمل يكفي أن يجلس معهم دقائق ليعود له الإيمان بالحياة. هم النخوة والحمية، هم الذين جعلوا السويداء تصمد بالطحين من الرابع عشر حتى التاسع والعشرين من تموز”.
هؤلاء العمال لم يدوّن الموثقون والصحفيون أسماءهم كقادة عسكريين أو سياسيين. لكنهم سيبقون في ذاكرة السويداء كأبطال من نوع آخر؛ جنود بلا سلاح، حموا القمح كما يحيا الإنسان. مطاحن أم الزيتون بجهودهم كانت خط الدفاع الأول عن حياة الناس.