هل يكفي تحسن الاقتصاد لكبح جماح التطرف؟

الراصد ـ غيداء الصفدي
قبل أيام، أعلنت الحكومة السورية عن زيادة غير مسبوقة في رواتب الموظفين بنسبة وصلت إلى 200%، في خطوة طال انتظارها وسط أزمات معيشية خانقة. وقد حملت هذه الزيادة آمالاً بتحسن نسبي في الوضع المعيشي، بشرط أن لا تلتهمها الأسواق بارتفاع جديد في الأسعار.
ورغم أن مثل هذه الخطوات الاقتصادية تُعد مؤشراً إيجابياً، فالمشهد السوري ما يزال معقّداً. فبينما يحلم المواطن بحياة أكثر كرامة، يستمرّ الخطاب الطائفي في فرض حضوره، وتطفو على السطح ممارسات التحريض المذهبي، بما تحمله من طاقة إقصاء وتخوين، تستهدف أي صوت يدعو إلى دولة المواطنة لا الولاءات.
وهنا يبرز سؤال جوهري:
“هل يؤدي تحسن الاقتصاد إلى تراجع التطرف؟”
الاقتصاد والتطرف: علاقة معقّدة وليست آلية
هذا السؤال قد يبدو بسيطاً، لكن الإجابة عنه تتطلب الغوص في جذور العلاقة بين الفقر والتهميش والتطرف. تشير دراسات عدة إلى أن تحسين الظروف الاقتصادية قد يسهم في الحد من التطرف، لكنه لا يشكّل حلاً سحرياً.
فمثلاً، دراسة واسعة النطاق نُشرت في مجلة Journal of Conflict Resolution عام 2023، شملت 1527 منطقة في 75 دولة، وجدت أن العلاقة بين الدخل والإرهاب تأخذ شكلاً غير خطي (U مقلوب). بمعنى أن ارتفاع الدخل في الطبقات الدنيا قد يرتبط مؤقتاً بازدياد التطرّف، قبل أن تبدأ الظاهرة بالتراجع بعد بلوغ عتبة معينة من الاستقرار المعيشي (حوالي 12,800 دولار للفرد سنوياً بالقوة الشرائية) \[Sage Journals، 2023].
كذلك، دراسة للبنك الدولي عن الصومال (2016–2018) وجدت أن الهجمات الإرهابية من تنظيم الشباب أثّرت سلباً على استهلاك الأسر بنسبة تصل إلى 33% في الأسبوع الأول بعد الهجوم، خصوصاً بين الفئات الأكثر فقراً، ما يعكس الترابط العميق بين الهشاشة الاقتصادية والعنف.
من نيجيريا إلى اليمن: حين يصبح الفقر أرضاً خصبة للتطرف
في نيجيريا، ساهم الفقر المدقع في شمال البلاد في صعود جماعة *بوكو حرام*. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أكثر من 60% من سكان الشمال يعيشون بأقل من 1.9 دولار يومياً، وهو ما وفر بيئة خصبة للجماعة لتجنيد الشباب العاطلين عبر تقديم المال أو “الرسالة”.
وفي اليمن، ساعدت سنوات الإفقار والتهميش المناطق الطرفية، لا سيما في الجنوب، على نمو نفوذ تنظيم القاعدة، خاصة بعد أزمة الغذاء في 2008، حين ارتفعت الأسعار بنسب صادمة دون حماية حكومية، ما فجّر احتجاجات عنيفة.
هذه النماذج تُظهر بوضوح أن الفقر ليس مجرد حالة اقتصادية، بل أيضاً منبع للغضب الجماعي، وقد يكون طريقاً إلى التطرف حين يترافق مع غياب العدالة.
سوريا: هل تكفي زيادة الرواتب؟
رغم أهمية رفع الرواتب في سوريا كخطوة نحو التخفيف من المعاناة، إلا أن تأثيرها الحقيقي في كبح جماح التطرف مرهون بعوامل متعددة.
التحسن الاقتصادي لا يُترجم تلقائياً إلى استقرار اجتماعي، إذا لم يترافق مع:
ـ عدالة توزيعية تضمن أن يستفيد الجميع من ثمار النمو، لا أن تُحتكر من قبل فئة محظية.
ـ مؤسسات قوية تحمي القانون وتوفر الخدمات بعيداً عن الزبائنية والفساد.
ـ مشاركة سياسية حقيقية تكفل تمثيل مختلف الفئات.
– مكافحة التمييز الطائفي والمناطقي الذي يفكك الهوية الوطنية ويعزز الولاءات الفرعية.
وفي الواقع، يُحذر خبراء من أن النمو الاقتصادي غير المتوازن قد يزيد الفجوة بين الطبقات، كما حدث في بعض تجارب أمريكا اللاتينية، ما يؤدي إلى إحباطات جديدة تُستغل من قبل جماعات متطرفة، ليس بالضرورة دينية بل حتى شعبوية أو فوضوية.
الإصلاح الشامل هو الجواب
قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 2023: “الفقر والتمييز والتهميش الاجتماعي تُعطي الإرهاب وقوده الأساسي”. وهذا ما يؤكد أن الاستقرار لا يُبنى فقط بالخبز، بل بالكرامة.
ولهذا، فإن محاربة التطرف، وبناء مجتمع متماسك، يتطلب أكثر من زيادات الرواتب أو خفض الأسعار؛ بل رؤية وطنية شاملة تشمل: إصلاح النظام التعليمي،فتح الفضاء المدني للشباب،ترسيخ قيم المواطنة المتساوية، وضمان التمثيل العادل في إدارة الدولة.
في الختام، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل نطمح لتحسين الأوضاع لنعيش فقط، أم لبناء وطن يحتضن الجميع؟
في الواقع “إن لم يُرافق التحسن الاقتصادي إصلاح سياسي واجتماعي عميق، فستبقى جذور التطرف كامنة، تنتظر لحظة الانفجار من جديد” وربما بأشكال مختلفة وخطابات جديدة.