رأي

من حرر البلاد؟!

 

كان غياث مطر ورفاقه في داريا، يحملون عبوات الماء والورود، ويهتفون للحرية، حملت مظاهرات داريا في ذلك الحين الورود، وأغصان الزيتون، واستخدم يحيى شربجي منبر المركز الثقافي ليحكي عن التسامح وعن “أخوتنا في الجيش والأجهزة الأمنية”، حرر شباب درايا السوريين يومها من الضغينة والاستبداد، قالوا نعم للحب والتجاوز، ونعم للحرية، فكانت صرختهم هي الحرية ذاتها، وهي أحد مفاتيح حرية الشعب السوري..

اشترى بعض الفتية في درعا علب بخاخ كتبوا فيها على الجدران “إجاك الدور يا دكتور” ففتحوا نافذة للحرية في قلوب وعقول السوريين، لم تغلق بعد، فكانت كلماتهم هي الحرية ذاتها، وقد حررونا من قيودنا التاريخية.

هتف شبان في سوق الحميدية بدمشق، في مدينة تقبض عليها الأفرع الأمنية كما تقبض التماسيح بأسنانها على الفريسة، تجاوزوا سماكة جلد التمساح وحدة أسنانه، وصاحوا للحرية، فاقتلعوا الأسنان واخترقوا الجلد، كما لم تخترقه يد في سنين أسر سوريا التي بلغت حينها الأربعين.

جلس الشباب في ساحة الساعة بحمص، يحملون حلمهم بأن تكون هذه البلاد لهم، وأن يكون فضاؤها حراً، فما غادروا ساعتهم حتى جاءت ساعتهم على يد بنادق الاستبداد، فرحلوا معلقين أرواحهم في سماء سوريا مفاتيح للحرية.

هل أحكي بعد؟ عن سنين اعتقال عبد العزيز الخير، والتعدي على الطيب تيزيني في ساحات دمشق؟ هل أحكي عن رامي هناوي ومشعل تمو؟ هل ينبغي أن أذكّر بسميرة خليل ورزان زيتونة وناجي الجرف؟

هل كانت صرخات فدوى سليمان ومي سكاف ومنتهى الأطرش فاتحة لسوريا؟ محررة لها؟

بعد أشهر التحرير الأولى دخلت البلاد في دوامة السلاح، حتى صار في كل حي قفل جديد وسلطة جديدة، ولكن بالرغم من ازدياد عدد الأقفال فإن صرخات الحرية الأولى كانت الشيء الوحيد الذي لا يمكن العودة عنه، والذي ظل أثره حتى اليوم، فماعادت القيود اللاحقة تستطيع الرسوخ، ولا تستطيع امتصاص صدى صرخة الحرية الأولى.

فهل من حرر هم أصحاب الصرخة الأولى؟ أقول نعم، وأدافع عن اجابتي ببضع محاججات أراها منطقية؟

فالدول ليست جغرافيا فحسب، ولا سلطة فحسب، بل عمادها وجوهرها وقيمتها هي أعلى رؤوس الأموال رفعة، وهي رأس المال البشري “الشعب”، والحرية في جوهرها، كانت هي المفتاح الذي يفتح الأفواه وأبواب العقول والقلوب ويحول الفكرة إلى صرخة، وماهو محرم التفكير به، إلى مباح، ولهذا كان قرار الشعب وكانت “بخاخات” درعا وصرخات دمشق وعبوات المياه في داريا وغيرها لحظة الحرية، وإن كان ثمة من محرر لسوريا، فهم من قرروا أن يكونوا رواد ساحات 2011 الذين صرخوا فهبت قلوب السوريين لتدرك أن ثمة في هذا العالم ماهو جدير بالقضاء على الخوف، وهم من صنعوا التغير الحقيقي الذي قطفت ثماره فصائل ومجموعات دخلت أخيراً إلى دمشق بموجب توازنات دولية، هي التوازنات ذاتها التي فرضت على هذه المجموعات أيضاً المغادرة إلى إدلب وفق خطة تهجير ممنهجة تبعت اتفاق مناطق خفض التصعيد.

ولذلك قبل القول في أن من يحرر يقرر، لا بد أن نعرف ماهو التحرير، ومن هو صاحب الفضل فيه.

فإذا كان مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، فإن الحرية يحصلها ويمنحها الأحرار، والفرد الحر هو فرد يعي الضرورة ويتحمل المسؤولية ويحمل القيمة، ومن يحمل هذه الصفات، لماذا لا يكون أهلاً للثقة كي يقرر؟

ولكن عودة للسياق السابق، ماهي لحظة التحرير؟ أخشى ووفقاً لهذا السياق أن كل من حرر “أو جلهم” قد اختفوا في المعتقلات أو اختطفوا أو أصبح مصيرهم مجهولاً، فليس لدينا بهذا المعنى من يمتلك شرعية التقرير عنهم، وبالتالي تسقط المقولة لعدم توفر أدوات تحقيقها، فالسوريون تحرروا منذ انطلاق ثورتهم، ولكن تسليم السلطة حصل الآن.

هل هذا انتقاص من “تضحيات” من قاتل وحمل السلاح؟ لا أظن ذلك، لذا سأعكس السؤال، أليس تجاهل قوى التغيير الديمقراطي التي صنعت لحظة الحرية واعتبارها خارج معادلة القرار والتحرير هو انتقاص من تضحياتها؟

حتى من يعترض اليوم على قرارات الحكومة الجديدة، هو يأخذ قوته من لحظة تحرير سابقة ليست تلك التي جاءت في ديسمبر 2024، بل اللحظة التي علمتنا نطق ال”لا” بعد أن حكمتنا ال “نعم”، هذه اللحظة التي اذا قررنا الاستغناء عن أثرها سنعود من رحلة حريتنا، وإذا تمسكنا بها استطعنا أن نقرر.

وباختصار، من سكن في الخيام، من صرخ أول صرخة حرية، من فقد أحبته، وسجن أو مات في المعتقلات، من تحمل الجوع والقهر والعقوبات، من حافظ على الحب في قلبه رغم تيارات الكراهية، من استطاع أن يحضن خصماً بعد أن تأكد بأن هذا طريق الخلاص هو من حرر، وهو هذه تعود على “الشعب” الذي أراد الحياة وما استكان في طلبها…وهاهو الآن يريد مجدداً أن يقرر فما من كلمة أو عبارة غيرت المعادلات في عصرنا الحديث كما فعلت عبارة “الشعب يريد”

في النهاية هل نذكّر أيضاً بأن الرجل الذي قيل إنه قوي، الذي حكم بالحديد والنار، الذي اعتبر أن الأبد مهنته وحرفته، الذي سخر من الهاربين، والذي كان يعلمنا مصطلحات حب الوطن، الذي قهقه كثيراً ظناً منه أنه الخالد، قد هرب.. وعندما برر هروبه قال “هربت في المساء، ولم أهرب في الصباح”

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى