مطلع عام 1981 هرب كريم من العراق صوب إيران، كان يعمل مدرساً في ضواحي بغداد وكان منتميا لحزب إسلامي معارض للبعث، ويومها تعرّض الإسلاميون إلى نكبة شديدة على يد أجهزة الامن البعثية، قَتل من قُتل وهَرب من هَرب، وكان حزبهم يبدو أضخم بكثير من وزنه الحقيقي، بالنظر الى حجم الاعتقالات التي تعرّض لها الشباب، كانت الاعتقالات تطال كل من يُشكّ بانتمائه للحزب المعارض، مهما كانت درجة الشك صغيرة ولا تكاد ترى، فمنهم من اعتقل لأنه يرتاد المسجد وتبدو عليه علامات التدين. لم تكن معركة السلطة نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات مع هذا الحزب لوحده، فهناك أيضا معركة أخرى مع حزب غير متدين! وجرت معه ذات الاساليب في الاعتقال والتعذيب والتذويب. كل هذه المعارك الداخلية كانت تقع في سرية تامة، أما في العلن فعلى جبهة الحرب مع إيران كانت قائمة الخسائر تزداد، والأحوال تتردّى، وتكبر كل يوم محرقة الأرواح والأموال والأمان، في محرقتين عاش البلد، داخلية وخارجية.
ترك كريم وراءه زوجة وطفلين، بنت في السادسة من العمر، وولد في الرابعة، اقتحمت أجهزة الأمن بيته بعد أيام على هروبه، كانت ابنته في بيت جدها يوم اعتقلت أمها وشقيقها، وربما قالوا لها كعادتهم، لن تتأخري في دائرة الامن، يكفينا ساعات قليلة من الحديث الودّي ثم تعودين الى البيت، وربما اطمأنت لفرط الود الذي أظهره رجال الامن بشواربهم الكثة وعيونهم التي لا يطمئن لها إنسان، مضت السنوات ولم تعد الأم وطفلها الى البيت، اختفوا الى الابد، ولا أحد يعرف كيف انتهت حياتهم، وكل ما عرف بعد ذلك أنهما لم يمكثا بالمعتقل طويلا.
التقيت كريم عام 2001 في مدينة قم الإيرانية، مضت عشرون عاما على هجرته المرة، كان كثير الصمت وقليل الكلام والابتسام، يعيش وحيدا في غرفة صغيرة، تقع في بناية قديمة لمدرسة دينية، يتلقّى فيها الشباب وأغلبهم من العراقيين دروسا في الفقه والعقائد واللغة، على أمل أن يكونوا رجال دين في بلد يحكمه الدين وتديره العمامة، لا صداقات في حياة كريم الا مع بضعة أشخاص يظهرون له الودّ ويراعون كبره وألمه ووحدته.
حين عرفت ما جرى لزوجته وولده، كان خيالي يذهب الى دائرة الامن، تصورتهما يقادان الى منصة الشنق، تخيلت الطفل ذا الأربعة أعوام معلّقا فيها، وسألت نفسي؛ هل كان الحبل الذي التفّ حول رقبته هو ذاته الذي يلتف حول رقاب الرجال؟ وكيف يمكن لوزنه الخفيف أن يسقطه الى الأرض؟ هل سحبه السجّان من قدميه وهو يشدّه الى الأسفل بأنفاس متقطعة؟ اتخيّل سيناريوهات الموت كلها، خنقا، او شنقا، او بالسم، او الرصاص، ويمرّ ببالي أبناء الرئيس في تلك اللحظة، كريمته الصغيرة كانت قريبة من عمر ابن كريم، وحين كان الرئيس يلهو معها، كان السجّان يحمل جسد الطفل ويرميه في محرقة او ربما في حفرة كبيرة خارج المدينة وليتحوّل الى رقم في مقبرة جماعية، واتصوّر مدير السجن وهو يتّصل بالرئيس ليبلغه عن حصيلة اليوم من الجثث.
كان خيالي شريرا يومها، لكنَّه لم يتخيل أنّه في جارتنا العربية سوريا، وتحت حكم النسخة السورية من البعث العربي، كانت تسحق عظام الصبيان في مكبس حديدي كبير كما شاهدنا في سجن صيدنايا السوري، صورة مكبس صيدنايا أعفت خيالنا وأراحته من التصورات الساذجة التي يمكن أن نرسمها لسيناريوهات الموت في سجون البعث، ينزل سقف المكبس الثقيل على الجسد، ويدير مدير المكبس سرعة نزوله، يزيدها قطعا حين تكون أعداد المكبوسين كثيرة، ويقلّلها حين يريد أن يتلذّذ بالمشهد المحبَّب اليه، ثوان قليلة ويتحول الإنسان بدمه وأحلامه ومخاوفه وشغفه، الى ما يشبه ورقة من اللحم والعظم، بعد أن سال الدم كلّه في أنابيب تصريف المياه، اتصور السجّان وهو يسحب بيديه الجسد ليضعه بعجالة في كيس النايلون، ويحكم إغلاقه، مع الطفل لم يكن خيالي يتصوّر أن هناك مكبسا للجثث، لكن صيدنايا أعطانا حلولا جديدة لما بعد الموت، صناعة مكبس بشري أمر يحتاج الى ذهن شديد الشعور بأهمية تصغير الجثث، مثلما يشعر المحقّقون بأهمية تضخيم الجرائم والتهم، فكلّما كبرت الجرائم صغرت أجساد الموتى، لا تريد الحكومة أن تُستغل مساحة كبيرة من الارض لأشياء ليست مهمة مثل جثث الكارهين لها وهم كثر، فإعدام هؤلاء عملية ضرورية لبقاء السلطة وسهلة تماما بالنسبة لها، لكن المرهق هو معالجة الجثث وطرق إخفائها، فالأجساد في الأنظمة الظلامية تتحوّل الى عبء وتحتاج الى “إبداع” لتختفي تماما.
الماء عدو المحارق، لذا هي تريد أجسادا بلا ماء، وربما كانت الآية القرآنية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” هي أكثر ما تضيق به صدور السجّانين، الماء دليل الحياة وهو يقلّل من وهج النار، وبوجوده يتضخّم الجسد ويحتاج الى قبر أكبر، وحين يخلو من الماء، لا يحتاج سوى جهد قليل في الحمل والنقل، ويعطي سرعة أكبر في الإنجاز، وسرية أعلى، ومثالية شديدة للمعالجة، وإفراغ الجسد يقلل من مساحة المقابر، او من مساحة المحارق، لا فرق، فالمساحة الأقل هي أعلى مباهج السلطة، سواء كانت مساحة الحرية، أو الرحمة، أو الأحلام الفردية، أو الألفة بالصداقة، أو الثقة بالغد او بالآخر، كل هذه المساحات الصغيرة تنتهي الى مقابر سرية “تبنيها” السلطة مثل ما تبني سجونها السرية.
دعونا نتخيل ماذا يجري خارج المكبس، ففي الوقت الذي تتواجد فيه طوابير من المكبوسين أمام غرفة صيدنايا الصغيرة، هناك في قاعة كبيرة وسط العاصمة تجلس حشود من المتملقين للسلطة والمغتنين بفتات موائدها، من فنانين، وأدباء، وشعراء، ورجال دين، ومفكرين!، وفوق رؤوسهم صورة كبيرة لرئيس السجن الكبير، وفي اللحظة التي ينزل فيها سقف المكبس على جسد إنسان، يصعد ” حيوان” الى المنصة ليمدح الرئيس، وحين تتكسّر عظام الموتى، تتضخّم جيوب” الحيوانات”، وحين ينزل مدير المكبس ما تبقى من عظام المكبوس، يتصاعد عويل المدّاحين.
المكبس العربي في النهاية هو الوثيقة التي تكشف للأجيال كم عدد من سحق فيها، فهو تماما بقدر المدّاحين والسجّانين، ومكبس البعث هو الفصل الأخير من فوبيا المساحة لديه.
*قيس حسن: صحفي وكاتب عراقي، كتب في العديد من الوسائل الإعلامية وعمل مديراً للبرامج في قناة الحرة بالعراق.