تقارير

حكاية حقيقية لنازح في السويداء، تشبه حكايا قمحنا!!

“سنابلنا التي انتظرناها طويلاً حتى تنضج؛ أُحرق بعضها بلا هوادة، وبيع البعض بأبخس الأثمان، واستبدل البعض بقمح رديء الجودة. وعوضاً عن أن تصبح تلك السنابل قمحاً يزرع فينبت من جديد، ويخبز فيقوّت الرمق، بات رماد ذَروه في مقلنا”، بهذه الكلمات لخص “أبا وليد عبدالرحمن الداراني” مدرس اللغة العربية المتقاعد، وأحد النازحين السوريين إلى محافظة السويداء قصته والدموع تتسلل من عينيه لتحكي التغريبة السورية كما لم تحكى من قبل..

يقول المثل؛ “لاتبحثوا عن الحرب في براميل البارود، بل في أهراءات القمح”، يضيف الداراني. “عندما قدم ربيع 2011 استبشرنا بموسم غلال وفيرة، وناشدنا السماء بغيث نيساني يحيي الأرض بعد جفاف طال نصف قرن من الزمن، فأُمطرنا ناراً”، لم يكن ذنبنا أكثر من أننا رفعنا رأسنا نحو السماء نطلب عيشاً كريماً وننشد الحرية التي تعتبر من حقوقنا المشروعة”.

حكاية سنابلي التي احترقت بذارها..

فقد السبعيني ثلاثة من أبنائه في الحرب، فيما استطاع الآخرون الفرار إلى خارج البلاد. فالدكتور وليد الذي لم يكن قد كان بحاجة سنة واحدة في الجامعة ليصبح طبيب قلب؛ انتُزع من قلب والديه تحت التعذيب في المعت.قل.

يقول عبدالرحمن للراصد: “لم يكن ذنب الدكتور وليد سوى أنه كان يداوي الجراح النا.زفة ويحاول إنقاذ المصابين من المحتجين الذين خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية، استدعي من قبل أحد الأفرع الأمنية مرتين وتم تنبيهه مرتين للابتعاد عما يفعله، لكن الشعور الإنساني كان أقوى من الخوف، وبقي مواضباً على إنقاذ من يستطع إنقاذه من الموت. وفي منتصف عام 2012 اعتقل وعذب حتى الموت، ولم يسلمونا جثمانه حتى الآن”.

وبحرقة يتابع: “ولدي محمد الذي كان في السنة الثالثة في كلية اللغة الإنجليزية، والذي كان يحلم أن يصبح ترجماناً محلفاً، لم يستطع ترجمة لغة الرصاصة التي أطلقت على رأسه، فحصده الموت سنبلة غضة، فالقا*تل لايفقه من اللغات إلا لغة الرصاص والقنابل، ولا تغريه إلا رائحة البارود، ولا يرى النور إلا من خلال إحراق كل من يفكر بالخروج من الظلام”.

“أما زيد الذي كان يحلم بأن يحصل على الشهادة الثانوية ليدرس بعدها الهندسة المدنية، فلم يكن يعلم أن عمارة حياته لن تتجاوز الدور التاسع عشر، وأنها مخالفة عمرانية عشوائية حسب قوانين المستبدين سيتم هدمها لمجرد أنها وقعت خارج منطقة إرادة استبدادهم.. زيد الذي صرخ في وجه قت*لة أخوته: ( نحن سوريون لماذا تقتلو*نا). طاول صوته الذي كان لايزال رقيقاً أعلى أبراج العالم، كان يخرج كل يوم مع مجموعة من رفاقه ليكسر حصار الحليب عن أطفال الغوطة الشرقية، كان يوم 17 من شباط 2014 آخر أيام حياته، حيث اعتقل يومها، وبعد سنة علمت أن زيداً قتل تحت التعذيب، لأنه حاول ورفاقه أن يكونوا سنابل قمح تطعم المحاصرين الجائعين”.

ويستطرد؛ ليست هذه القصص قصص أبنائي أنا فقط، هي قصة عدد كبير من السوريين، قصة حقول من القمح السوري أُحرقت بدم بارد، قصة أكثر من نصف مليون سنبلة قمح أحرقت كي لاتنثر بذورها فتغل لتسد رمق الجوعى.

تغريبة القمح!!

بعد أن فقد الداراني ثلاثة من أولاده، لم يعد أمامه سوى أن يرسل ابنته وابنه الذين كبرا في فترة الحرب إلى بلاد المهجر لحمايتهما من الموت المحتم.

“غالية التي ولدت في الثامن من آذار عام 1987، أسميتها هذا الاسم تيمنا بالشهيدة غالية فرحات تلك السنبلة السورية الجولانية التي قاومت همجية الشوك الصهـ.يونـي، ونثرت د..مها قمحاً لينبت في كل نفس سورية مشبعاً بحب الأرض، رافقت شقيقها الأصغر منها زيد في كل خطوة أثناء نشاطاته في محاولة كسر الحصار عن أطفال الغوطة، لم تستطع البقاء مكتوفة اليدين وهي ترى الأطفال يتضورون جوعاً، فاختلطت مشاعر الممرضة فيها بمشاعر الأم بطبيعة السنبلة بخاصية اسمها فمزجت وتجانست معاً”.

ويضيف الداراني: كنت أفخر بها أكثر من أخوتها جميعا، وفي الوقت ذاته أخاف عليها أضعاف خوفي عليهم، خصوصاً بعد أن اعتقل زيد ورفاقه، فقمت بإرسالها وأخيها الأصغر جمال إلى محافظة السويداء مع والدتهما المسنة، بعد أن قام أحد أصدقائي القدامى هنالك بتأمين منزل لهم بجوار منزله. وبدأت من حينها أسعى لتهريبهما من الموت، لم أعد قادرا على الخسارة أكثر من ذلك.

في السابع من تشرين الأول عام 2014، وصلت غالية وأخوها جمال إلى ألمانيا، واستطاعا النجاة من المحرقة، لكن ذلك لم يخفف كثيراً من حزن والديهما. “هل هو مكتوب على قمحنا أن يحرق أو يصدر؟” يتساءل الديراني.

بعد أن أحرقوا قمحنا، صادروا البيدر وزرعوه قمحاً ليناً !!

يبتلع أبا وليد ريقه بصعوبة ويطلق زفرة وتنهيدة عميقة، ويستطرد قائلاً: “لم يكتفوا بحرق المحصول وسرقة البذار التي لم تحترق وبيعها، بل وصادروا البيدر أيضاً.. بعد أن استطعت تهريب غالية وجمال إلى السويداء ثم ألمانيا، اضطررت وزوجتي للخروج من منزلنا الذي حاولنا المقاومة والبقاء فيه، نتيجة التضييق والقهر الذي طاولنا من قبل الميلشيات الأجنبية والتابعين لها من أبناء البلد.

ويضيف في الثاني من كانون الثاني 2015 اتجهت وزوجتي إلى السويداء، تاركين خلفنا منزلنا وأراضينا، ثم انتقلنا للعيش في لبنان على أمل الحصول على لم شمل مع أولادنا في ألمانيا والذي تم رفضه لعدم تمكنهما من الحصول على الإقامة حينها، فعدنا أدراجنا للسويداء مجدداً، وبعد فترة أربعة أشهر علمت من أحد أقربائنا في دمشق أن أحد أفراد الميليشيات الأجنبية وضع يده على منزلنا في منطقة السيدة رقية في دمشق القديمة، من خلال عقد بيع بيني وبينه تم تزويره بطريقة رسمية كغيره من المنازل في مناطق عديدة من دمشق وريفها.

وبعيون تحبس دمعها أكمل الداراني؛ ما أشبه السوريين بقمحهم، أحرقوا وتمت سرقتهم واستبدالهم بقمح أجنبي لايصلح للخبز.

مقاربة!؟

تبلغ مساحة سوريا 186 ألف كم مربع مايعادل (18.5 مليون هكتار)، كان عدد سكانها قد وصل إلى نحو 23 مليون نسمة قبل العام 2011، وكانت مساحة مليون و374 ألف هكتار منها صالح لزراعة القمح بنوعيه البعلي والمروي، وكانت تنتج قبل الحرب نحو 3 ملايين و200 ألف طن من القمح القاسي الأجود في العالم سنويا.

أما اليوم.. فعدد سكانها وفق إحصائيات منظمات دولية، لا يتجاوز في الداخل بكل مناطق السيطرة 17 مليون نسمة، و9 ملايين يعيشون خارج حدودها فيما أزهقت الحرب روح أكثر من نصف مليون وغيبت المعتقلات أكثر من 300 ألف، نصف الأراضي التي كانت تزرع قمحاً خرجت من خريطة الزراعة وبقي منها 512 ألف هكتار، فيما لم يتجاوز الانتاج مليون و 93 ألف طن، أكثر من مئة ألف طن يتم مقايضتها سنوياً بضعفها من القمح الروسي اللين، كما تمت مقايضة سكان أحياء دمشقية بمعظمها بسكان جدد.

في العام 2022 أصدرت عدد من المواقع الإعلامية السورية والعربية تقارير عديدة عن قيام ميليشيا أجنبية بالاستيلاء على أملاك مهجرين ونازحين في دمشق ومناطق أخرى من سوريا بطريقة تزوير عقود بيع بواسطة متنفذين، وكان أبرزها تحقيق اشتركت به صحيفة الغارديان البريطانية مع وحدة الصحافة الاستقصائية السورية سراج ومواقع سورية أخرى سلطوا الضوء فيه على أكثر من 300 عملية استي*لاء على ممتلكات المهحرين من دمشق وريفها، كما سلط تحقيق آخر الضوء على استيلاء السلطات السورية وفق مزادات علنية على أكثر من خمسمائة ألف دونم من الأراضي الزراعية في مناطق تابعة لسيطرة القوات الحكومية في محافظة إدلب.

سياسة الأرض المحروقة من أكثر السياسات التي اتبعها المستبدون على اختلاف مشاربهم في العالم أجمع لفرض سيطرتهم وسطوتهم، فلم يعتبروا لحقوق الإنسان ولم يلقوا السمع والطاعة للشرعة الدولية، فاعتمدوها وسيلة لحرق البشر والزرع وإرضاخهم، وهذا ما حصل في سوريا ولا يزال قائماً، فهل سيأتي اليوم الذي سنستعيد به قمحنا السوري؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى