أنا واحدة منهنَّ؛ أولئك اللواتي ولدن في بيئة تحرض على الكراهية وتصنع منها أسواراً للدفاع عن الفرد والجماعة وتصيغ خطابها للتصدير.
هذا الخطاب الذي لايبدأ بين الجنسين فقط ولاينتهي بحدود العائلة والعشيرة والعقيدة. بل يتعدى هذا وذاك ليصبح خبز الحياة ووسيلة التواصل الأكثر جذباً وحتى تأثيراً.
نحن من هذه البيئة ننهل من ثقافتها ونسوق أفكارها، نجامل ونزيف ونكذب حتى في مشاعرنا.
لم أستغرب تنمّر إحداهن وانا عائدة من “ساحة الكرامة” ولا استهزاء أخريات، وبكثير من الفرح والثقة أجبت على سؤال “حماتي”: (انشالله حررتوا فلسطين)…. لا حررنا حالنا.
وبكل تأكيد لن أواجه تنمرهم/هن إلا بصبر “أم نبيل” وحلم “سامية” ومحبة “مها” المُعلمة التي واجهت التخلف بالوعي والخوف بالجرأة، والزيف بالحقيقة والتعصب بالانفتاح والرفض بالحوار والأهم خطاب الكراهية بخطاب المحبة.
لم أستطع إخفاء ضحكتي عندما طلبت مني إحداهن إضافة القليل من الطحين إلى وعاء العجين وإعادة خلطه من جديد.. وانهمرت الدموع من عيني ضحكاً وبكاء، عندما علمت بأني سأرتدي مثلهن “البدلة العربية” في مظاهرة يوم الغد.
ضحكت النساء على ضحكي المتواصل، وبعضهن خمن عدم خبرتي في صنع الخبز وعجن الطحين وبادرت أحداهن بتأمين “البدلة العربية” مقدرة عدم امتلاكي لواحدة.
أما أنا فكنت غارقة في الضحك من كم الصدمات التي ستقع على رأس زوجي حين يراني لأول مرة في المظاهرات حيث أتمنى وأرتدي البدلة العربية التي طالما حلمت بها، وأهتف مع النساء وأغني “موطني” وأبتسم لجميع الشركاء وأقدم لهم/ن الخبز المجبول بالمحبة والإنسانية.
عندها سيصدم زوجي صدمة لا أعرف نتائجها.
فليكن؛ لقد حسمتُ أمري ويوم الغد بداية الخلاص من التبعية وحتى العبودية.. واليوم أول ضحكاتي وأول رغيف أصنعه بيدي.
لم أفكر في الكارثة قبل أن تصطحبني “مها” إلى منزل “أم نبيل” حيث عدد من النساء يصنعن الخبز لتقديمه في اليوم التالي للمتظاهرين والمتظاهرات. ولم أجد مبرراً لهذا العناء وهذا التعب طالما أننا قادرات على شراء الخبز الجاهز. ولم أدرك حينها قيمة الرسائل التي حملها الخبز المغمس باللبن والزيتون إلى العالم.
كم أشعر بصغري أنا المدرسة “السابقة” ابنة المدينة أمام كلمات “أم نبيل” (زرعنا القمح بأرضنا، وحصدنا بأيدينا وصنعنا منو الطحين والخبز، لنطعمي منو الغريب والقريب، نحنا مش جوعانين وما من موت من الجوع.. من أرضنا مناكل وبأيدينا منبني وبتاريخنا وإرثنا منصون كرامتنا).
لم أصدق أن هذه المرأة ليست متعلمة وقد لبست ثوب الحداد سنوات من العمر بعد رحيل ولدها “العريس” وفتحت منزلها اليوم فرحاُ وسعادة وكأنها استعادته من عالمه الآخر لتزفه من جديد.
كان عائداً من “ليبيا” ليزف عروسه، وكانت “أم نبيل” قد هيأت له كل تجهيزات العُرس، وانتظرته لساعات وليال على هذه الأريكة وذاك الحجر وفي مدخل المنزل وفي كل سيارة عبرت أو توقفت، ومع رنة كل هاتف وصوت كل قادم ومغادر.. وأخيراً عاد.
وصل العريس بعد أن قضى أيام طوال في “فرع فلسطين” وعاد..
لم أدر سر المحبة التي جمعت “أم نبيل” بإحدى نساء الخبز حتى أخبرتني “مها” همساً لقد التقيتا في عُرس ولديهما في بيت الجنازة!!.
عندما كانت “أم نبيل” تتوسل الحضور فتح َتابوت ولدها المقفل لتحتضنه للمرة الأخيرة، كانت “سامية” توزع على المعزين بطاقة فرح ولدها الموجود في تابوت مقفلٍ آخر بالمكان نفسه.
أحدهما قُتل بفرع فلسطين (لا أعرف ما علاقة فلسطين بالمكان)، والآخر بتفجير على حاجز حيث كان في الخدمة الإلزامية، وكلٍ في تابوت مُغلق.
عندما حضر الرجال لنقل الشهيدين إلى مثويهما الأخير، علا الصراخ في بيت الجنازة وتسابقت النسوة في احتضان صندوقي الخشب المقفلين، واختار الرجال وتبعثروا بين الثكالى وتاهوا في الولاء لأحد الضحايا، فحملاهما بعد عناد وجهد كبير حتى ضاعت الأصوات وتلاشت في البحث عن كليهما في أي صندوق…
بالأمس القريب بدأ زفافهما في “ساحة الكرامة” وسط مدينة السويداء ومنذ حملتا صور ولديهما زغردتا وتبادلتا حمل الصور وغنى لهما كل الحضور.. لقد شاهدتا وجها ولديهما في عيون كل المتظاهرين ..
كنت أتساءل لمن أطعم الخبز غداً؟ لشقيق زوجي الذي ينعتني بالعنصر القاصر، أم لشقيقته التي ما دأبت تعيرني بخلفة البنات..
لمن أطعم الخبز؟ لأخي المتباهي بملك ورثه من والدي، آه كم كنت صغيرة؟
في اليوم العظيم نزعت النظارة عن عيني، أردت أن أرى بهما الجميع بحثت عنهم/ن بين الوجوه، تمنيت أن أطعمهم/ن خبز المحبة علهم/ن يعبروا معي، وما همني أن يعبروا، لقد انطلقت ولن أعود، ولكني أبحث عنهم/ن وأشتاقهم/ن .. هناك ما اجتمعنا عليه وأضحكنا وأبكانا معاً، لعلني أجد أحدهم/ن قبل أن يفرغ الخبز من يدي.
في ذاك اليوم العظيم التقيت كل اللذين أحبهم/ن، البعض أعرفه وآخرون/ات لا أعرفهم/ن ولكني أحبهم/ن وأخاف عليهم/ن وعلى فقدهم/ن، كم بدا جميلاُ أحد جيراننا بصحبة زوجه وطفله، وكم كان رائعاً شيخ عائلتنا المحمول على الأكتاف هاتفاً للحرية، وكم بكيت فرحاً ونحن ننشد “موطني” …
ما زلت أبحث بين الجموع حتى التقيت زوجي.
مشينا طويلاً في ظهيرة ذاك اليوم إلى المنزل معاً.. لم يسألني سوى عن صاحبة البدلة وأين ردائي الآخر، كان يمشي بهدوء ويدخن سيجارة تلو الأخرى، يلتفت إلي بين الحين والآخر وأنا أسترق النظر إليه.. لم يكلف نفسه النظر إلى هاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين، اعتقدت أنه كان يجمع غضبه ويهيء نفسه لساعة العقاب وربما الانتقام لرجولته وكبريائه اللذين انتُهاكا صباح هذا اليوم، لعله يصرخ في وجهي وربما يُعنفني ويضربني بكلتا يداه، ولكن لماذا؟ لم يفعلها من قبل ولم أفعل ما هو مُخزي ثم أنه حنون ومازال يحبني. كم أعطف عليه وكم هو ضحية مثلي، لعله يمسك بيدي أو حتى يضمني…
يرن الهاتف مرة أخرى ويجيب محدثه بكلمات متقطعة “وين؟ .. على الراصد .. وما يلبث أن يبحث متصفحاً جواله، يضحك مقهقهاً، فتنهمر دموعي ضحكاً وبكاء قبل أن يقترب مني ليضمني بيده ويُريني بالأخرى صورة على جواله قائلاً “شوفي ما أهيبك بالبدلة العربية”..
.