تقاريرملفات

صناعة الكراهية، حكاية تاريخية لتفريق الجماعات!!

منذ زمن ليس ببعيد روى لي أحد المعمرين في القرية التي أنحدر منها “أن البيك الذي كان يحكم قريتنا قبل قرن من الزمن كان كل ما استشعر بأن الفلاحين والرعاة سيثورون على جوره وظلمه، يبدأ جولته ببث الشائعات حول هذا وذاك عن طريق (زُلم البيك) الذين يتنقلون ونساءهم بين بيوت القرية يتكلمون بلسان أبو سليم عن زوجة الراعي خلف وكيف تخون زوجها مع مصطفى، ثم يخترعون قصة يخبرون من خلالها أبا سليم عن محاولة خلف للتحرش بابنة عمه فاطمة، ويحرضون أهل الضيعة على محمود الذي حرق محاصيلهم السنة الفائتة بالاتفاق مع شيخ القرية المجاورة، ويحذرون محمود من مؤامرة يحيكها له (الداسوس) عويد بالاشتراك مع الجنود الفرنسيين في قيادة الناحية، يحاولون إقناع أهل القرية بأن الرعاة البدو في القرية “خونة ولا أمان لهم”، ويلعبون اللعبة ذاتها مع البدو فيخبرونهم بأن أهالي القرية يجهزون لإحراق بيوتهم والتنكيل بهم”.

ومن خلال انتشار الشائعات وانتقال الأخبار الملفقة، تبدأ القصة بمهاترات بين الفلاحين فيما بينهم، وبينهم وبين الرعاة، وتنتهي بالكراهية والاستعداء والدم، والبيك يراقب من بعيد مجريات الأمور، وكل ما أحس بأنها انطفأت أوقد تحتها، حتى يتأكد أن قوة المتصارعين خارت ليبدأ جولاته كطرف صلح بينهم.

الأسلوب القديم المتجدد في زراعة فكرة شيطنة الآخرين ذاته يمارسه أصحاب النفوذ والسلطة في كل شبر من بلادنا كي يضمنوا بقاء سيطرتهم، واستمرارهم بصناعة خبز حياتهم في تنورٍ وقوده البسطاء الذين ينجرفون خلف الشائعات والمهاترات التي أنتجت فصولها وأخرجتها السلطة نفسها.

خطاب الكراهية حكاية قديمة في بلادنا بدأت من الخلق الأول، وازدهرت عبر العصور اللاحقة. وتفشت إبان الاحتلال العثماني للبلاد، حيث تولى الديوان السلطاني مسألة اللعب على أوتار عديدة لإحكام قبضته على البلاد مستغلاً المشاعر الدينية لدى الشريحة الأكبر من سكانها، من خلال غرس بذور الكراهية بين مسلميها ومسيحييها، بين عربها والقوميات الأخرى، وبين طوائف الدين الواحد فيما بينهم، من خلال إدراج أمثال وتعويمها بين أهل البلد منها “ما تحرم الأكل عند أحدى الشرائح وتبيح النوم عندها، فيما تحذر من المبيت عند شريحة أخرى وتبيح طعامها”، فيما أشاع ورسخ اعتقادات حول بنى دينية على أن “لديها أعياد تبيح مواقعة المحارم الذي ينافي الشرائع”، حيث استطاع إحداث شرخ بين كافة الشرائح ضمن من خلاله استمرار حكمه قرابة أربعة قرون من الزمن.

وقد حذى المماليك عند سيطرتهم على مفاصل الدولة العثمانية في البلاد حذو العثمانيين، حيث عمل مواليهم على نشر التفرقة وتكريسها بالشائعات والأباطيل، فمثلاً عندما هزمت حملة إبراهيم باشا على جبل حوران روج الجند الذين استطاعوا الفرار أن (الدروز) مخلوقات أجسامهم كالغيلان وأشبه للعجول وليسوا بشراً، ليصبح هذا الأمر اعتقاداً راسخاً لدى البسطاء.

هذه المعتقدات بدأ يزول بعض أثرها مع اندحار الدولة العثمانية وخروجها من البلاد إبان الثورة العربية التي شملت صفوفها ألوان عدة من أبناء سورية لتشكل الشائعات التي أنتجها الخطاب التحريضي لقرون ألقاب وتندرات لدى الغالبية العظمى، ولا نقول أن ذلك جيدا ولكنه كان انتقالا أكثر منطقية من الرسوخ المقتنع به إلى مجرد لقب وتندر.

فيما اتجه المستعمر الفرنسي إلى استحداث خطاب أضمن رسوخا في النفوس، مبتعدا عن المناحي الدينية، ولاجئاً إلى تأسيس (خطاب كراهية مبني على تقاذف التهم بالتخوين)، كما فعل بعد معركة المسيفرة إذ أثار عن طريق جواسيسه مسألة من أطلق الرصاصة الأولى من الثوار كان هدفه تنبيه الجنود الفرنسيين، حيث سوق الجواسيس المزروعين في سهل حوران أن ثوار الجبل هم من فعل ذلك، وبالمقابل كان الجواسيس المزروعين في الجبل يثيرون المسألة بأن ثوار السهل هم من قاموا بإطلاق الرصاصة الأولى، لتبدأ مهاترات التخوين في الوقت الذي لم يعرف فيه فعلاً من أطلق الرصاصة، وإن كان ذلك حماساً زائداً أو تنبيهاً فعلياً للمستعمر.

وقد وضع المستعمر طريقة منهجية لزرع الشقاق ونشر الكراهية من خلال تمويه مفهوم الوطن وتغييبه وبعثرة أوراقه كي يختلط المفهوم على أكبر شريحة ممكنة من الناس والجماعات، وفصل لكل مجموعة ثوباً خاصاً بها ألبسها إياه على أنه الثوب الوطني الخالص، وبهذا يكون قد أسس لخطاب لم ينجلي مع جلاءه ولايزال مستمرا حتى يومنا هذا.
وزاد الطين بلة قيام المنتفعين على حساب الشعب بتعزيز هذا النوع من الخطاب، حيث أمسكوا بخيوط اللعبة ليديروها أنى اقتضت مصالحهم.

ولعل الأخطر في الأمر أن الخطاب القائم اليوم تم استولاده من زاوج متعدد لخطابات كراهية بنيت على تأجيج العنصريات القومية (العربي والكردي والآشوري ووو..)، والإثنية (مسلم ومسيحي-سني وشيعي وعلوي ودرزي ووو..) والعشائرية (شمري وعنزي وووو…)، والحزبية (شمولي، يميني، يساري، انفصالي) مع الخطاب الذي يستخدم عباءة الوطن التي فصلت على الشخصنة (كل من لا يعترف بأنني الوطن فهو عميل وخائن).

هذه التركيبة الخطيرة من الخطاب، باتت أشد إيذاءا مع تطور وسائط بثها من حيث سرعة الانتشار، وجودة الترسيخ، الأمر الذي لم يغفل عنه الداعين للتحريض وداعميه، وعلى رأسهم المستفيد الأكبر من تسويقه والمتمثل بذوي النفوذ الذين يدركون أن بقاءهم قائم على استمرارية الخطاب التحريضي والعقول المغيبة عن استحضار الخطاب المضاد له.

ويعتمد الفكر الذي يدير هذه المعركة التحريضية، على أسلوبين في إدارتها، يبدأ فيه من خلال ناطقين غير رسميين باسمه بدعم مباشر، فيما يستثمر بالمقابل ردود الطرف الآخر بشكل غير مباشر لصناعة الضوضاء التي يرجوها بين صد ورد، فهذا ينبش تاريخ جماعة ما ويكيل ما يكيل لها من تهم العمالة والخيانة التي ما انزل الله بها من سلطان، وذاك يرد بالمثل، ولا تستثنى الرموز التاريخية التي تمثل الجماعات من تلفيق الاتهامات، ليصل الأمر بعض الأحيان للمساس بالعقائد والأعراض وغير ذلك.

وبكل طاقته يعمل العقل المدبر لهذه الضوضاء الهدامة على تشويه الوجه السوري لأي محاولة خروج عن سياقه، من خلال خطة لإلهاب كل شعور ونزعة من شأنها أن تشل الوجه البهي والحضاري، على مبدأ العصب السابع في الدماغ والذي يلتهب بفعل فيروسي دخيل ما يؤدي لارتخاء عضلات الوجه وفقدان السيطرة على التحكم الإرادي بها ليغدو مشلولاً غير قادر على النظر بشكل جيد ومتلعثم الكلام.

إذاً؛ توضح خطاب الكراهية بصور مختلفة في حقبة الاحتلال العثماني، وكانت الإشاعة الأداة والمحرض الرئيسي للكراهية في غياب الثقافة والتنوير.
وهذا يؤكد أولوية تحكيم العقل والفكر التنويري والثقافة الإنسانية في مواجهة خطاب الكراهية، وأهم أداتها الإشاعة باعتبارها السلاح المتقدم في تأجيج النزاعات والمنظار العاطفي الأكثر تحريضاً في مواجهة العقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى